فصل: الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏)‏

‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ هكذا يقرأ أكثر الأئمة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولم يرو أحد عن نافع فيما علمناه ‏}‏إنما النَسِيُّ‏}‏ بلا همز إلا ورش وحده‏.‏ وهو مشتق من نسأه وأنسأه إذا أخره، حكى اللغتين الكسائي‏.‏ الجوهري‏:‏ النسيء فعيل بمعنى مفعول، من قولك‏:‏ نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته‏.‏ ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل‏.‏ ورجل ناسئ وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة‏.‏ قال الطبري‏:‏ النسيء بالهمزة معناه الزيادة نسأ ينسأ إذا زاد‏.‏ قال‏:‏ ولا يكون بترك الهمز إلا من النسيان، كما قال تعالى‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، ورد على نافع قراءته، واحتج بأن قال‏:‏ إنه يتعدى بحرف الجر يقال‏:‏ نسأ الله في أجلك كما تقول زاد الله في أجلك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه‏)‏‏.‏ قال الأزهري‏:‏ أنسأت الشيء إنساء ونسيئا اسم وضع موضع المصدر الحقيقي‏.‏ وكانوا يحرمون القتال في المحرم فإذا احتاجوا إلى ذلك حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم‏.‏ وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا‏:‏ لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن‏.‏ فكانوا إذا صدروا عن منى يقوم من بني كنانة، ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس، فيقول أنا الذي لا يرد لي قضاء‏.‏ فيقولون‏:‏ أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم‏.‏ فكانوا كذلك شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها‏.‏ فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه‏.‏ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة‏.‏ ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء‏.‏ وقول ثالث‏.‏ قال إياس بن معاوية‏:‏ كان المشركون يحسبون السنة اثني عشر شهرا وخمسة عشر يوما، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوما فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة‏.‏ وهذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ أي زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه‏.‏ ثم قال‏:‏ السنة اثنا عشر شهرا‏.‏ ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنة - وهي الخمسة عشر يوما - بتحكمهم، فتعين الوقت الأصلي وبطل التحكم الجهلي‏.‏

وحكى الإمام المازري عن الخوارزمي أنه قال‏:‏ أول ما خلق الله الشمس أجراها في برج الحمل، وكان الزمان الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس برج الحمل‏.‏ وهذا يحتاج إلى توقيف، فإنه لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء، ولا نقل صحيحا عنهم بذلك، ومن ادعاه فليسنده‏.‏ ثم إن العقل يجوز خلاف ما قال، وهو أن يخلق الله الشمس قبل البروج، ويجوز أن يخلق ذلك كله دفعة واحدة‏.‏ ثم إن علماء التعديل قد اختبروا ذلك فوجدوا الشمس في برج الحوت وقت قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الزمان قد استدار‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بينها وبين الحمل عشرون درجة‏.‏ ومنهم من قال عشر درجات‏.‏ والله أعلم‏.‏ واختلف أهل التأويل في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك‏:‏ بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له‏:‏ جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الزهري‏:‏ حي من بني كنانة ثم من بني فقيم منهم رجل يقال له القلمس واسمه حذيفة بن عبيد‏.‏ وفي رواية‏:‏ مالك بن كنانة‏.‏ وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه‏.‏ وفي ذلك يقول شاعرهم‏:‏

ومنا ناسئ الشهر القلمَّس

وقال الكميت‏:‏

ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما

قوله تعالى‏{‏زيادة في الكفر‏}‏ بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود البارئ تعالى فقالت‏{‏وما الرحمن‏}‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ في أصح الوجوه‏.‏ وأنكرت البعث فقالت‏{‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وأنكرت بعثة الرسل فقالوا‏{‏أبشرا منا واحدا نتبعه‏}‏القمر‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله‏.‏ ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون‏.‏

قوله تعالى‏{‏يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ فيه ثلاث قراءات‏.‏ قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ‏}‏يَضِل‏}‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏يُضَل‏}‏ على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء ‏}‏يُضِل‏}‏ والقراءات الثلاث كل واحدة منها تؤدي عن معنى، إلا أن القراءة الثالثة حذف منها المفعول‏.‏ والتقدير‏:‏ ويضل به الذين كفروا من يقبل منهم‏.‏ و‏}‏الذين‏}‏ في محل رفع‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الله عز وجل‏.‏ التقدير‏:‏ يضل الله به الذين كفروا، كقوله تعالى‏{‏يضل من يشاء‏}‏الرعد‏:‏ 27‏]‏، وكقوله في آخر الآية‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏‏.‏ والقراءة الثانية ‏}‏يضل به الذين كفروا‏}‏ يعني المحسوب لهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله تعالى‏{‏زين لهم سوء أعمالهم‏}‏‏.‏ والقراءة الأولى اختارها أبو حاتم؛ لأنهم كانوا ضالين به أي بالنسيء لأنهم كانوا يحسبونه فيضلون به‏.‏ والهاء في ‏}‏يحلونه‏}‏ ترجع إلى النسيء‏.‏ وروي عن أبي رجاء ‏}‏يضل‏}‏ بفتح الياء والضاد‏.‏ وهي لغة، يقال‏:‏ ضللت أضل، وضللت أضل‏.‏ ‏}‏ليواطئوا‏}‏ نصب بلام كي أي ليوافقوا‏.‏ تواطأ القوم على كذا أي اجتمعوا عليه، أي لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة‏.‏ وهذا هو الصحيح، لا ما يذكر أنهم جعلوا الأشهر خمسة‏.‏ قال قتادة‏:‏ إنهم عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرم في التحريم، وقاله عنه قطرب والطبري‏.‏ وعليه يكون النسيء بمعنى الزيادة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما لكم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير‏:‏ أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول‏:‏ مالك عن فلان معرضا‏.‏ ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تتخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله‏.‏ والنفر‏:‏ هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم‏:‏ نفر إلى الأم يفر نفورا‏.‏ وقوم نفور، ومنه قوله تعالى‏{‏ولوا على أدبارهم نفورا‏}‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ويقال في الدابة‏:‏ نفرت تنفر - بضم الفاء وكسرها - نفارا ونفورا‏.‏ يقال‏:‏ في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران‏.‏ ونفر الحاج من منى نفرا‏.‏

قوله تعالى‏{‏اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ قال المفسرون‏:‏ معناه أثاقلتم إلى نعيم الأرض، أو إلى الإقامة بالأرض‏.‏ وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض‏.‏ وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله ‏}‏اداركوا‏}‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ و‏}‏ادارأتم‏}‏البقرة‏:‏ 72‏]‏ و‏}‏اطيرنا‏}‏النمل‏:‏ 47‏]‏ و‏}‏ازينت‏}‏يونس‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وأنشد الكسائي‏:‏

تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما أتابع القبل

وقرأ الأعمش ‏}‏تثاقلتم‏}‏ على الأصل‏.‏ حكاه المهدوي‏.‏ وكانت تبوك - ودعا الناس إليها - في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال - كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي - فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على الآخرة‏.‏ ومعنى‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ أي بدلا، التقدير‏:‏ أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة ‏}‏فمن‏}‏ تتضمن معنى البدل، كقوله تعالى‏{‏ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون‏}‏الزخرف‏:‏ 60‏]‏ أي بدلا منكم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طَهيان

ويروى من ماء حمنان‏.‏ أراد‏:‏ ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة‏.‏ والطهيان‏:‏ عود ينصب في ناحية الدار للهواء، يعلق عليه الماء حتى يبرد‏.‏ عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد طافت راكبة‏:‏ ‏(‏أجْرُك على قدر نَصَبِك‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا تنفروا يعذبكم‏}‏ ‏}‏إلا تنفروا‏}‏ شرط، فلذلك حذفت منه النون‏.‏ والجواب ‏}‏يعذبكم‏}‏، ‏}‏ويستبدل قوما غيركم‏}‏ وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ومن محققات الأصول أن الأمر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل‏.‏ فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، كقوله‏:‏ إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا، كما ورد في هذه الآية‏.‏ فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عباس قال‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏ و‏}‏ما كان لأهل المدينة - إلى قوله - يعملون‏}‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ نسختها الآية التي تليها‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏التوبة‏:‏122‏]‏‏.‏ وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة‏.‏ ‏}‏يعذبكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو حبس المطر عنهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قال، وإلا فالعذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ قول ابن عباس خرجه الإمام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال‏:‏ سألت ابن عباس عن هذه الآية ‏}‏إن تنفروا يعذبكم عذابا أليما‏}‏ قال‏:‏ فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم‏.‏ وذكره الإمام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال‏:‏ استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به‏.‏ و‏}‏أليما‏}‏ بمعنى مؤلم، أي موجع‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ويستبدل قوما غيركم‏}‏ توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم‏.‏ قيل‏:‏ أبناء فارس‏.‏ وقيل‏:‏ أهل اليمن‏.‏ ‏}‏ولا تضروه شيئا‏}‏ عطف‏.‏ والهاء قيل لله تعالى، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد‏.‏ فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صلى الله عليه وسلم حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية، ذكره القشيري‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم‏.‏ وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، لأنه متعين‏.‏ وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الإمام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إلا تنصروه فقد نصره الله‏}‏ يقول‏:‏ تعينوه بالنفر معه في غزوة تبول‏.‏ عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك‏.‏ قال النقاش‏:‏ هذه أول آية نزلت من سورة ‏[‏براءة‏]‏ والمعنى‏:‏ إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة‏.‏ وقيل‏:‏ فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفاته ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله‏.‏ قال الليث بن سعد‏:‏ ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏.‏ خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله‏{‏إلا تنصروه‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏ وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثاني اثنين‏}‏ أي أحد اثنين‏.‏ وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة‏.‏ فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة‏.‏ وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر‏.‏ والعامل فيها ‏}‏نصره الله‏}‏ أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل ‏}‏والله أنبتكم من الأرض نباتا‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقرأ جمهور الناس ‏}‏ثاني‏}‏ بنصب الياء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف غير هذا‏.‏ وقرأت فرقة ‏}‏ثاني‏}‏ بسكون الياء‏.‏ قال ابن جني‏:‏ حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فهي كقراءة الحسن ‏}‏ما بقي من الربا‏}‏ وكقول جرير‏:‏

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

قوله تعالى‏{‏إذ هما في الغار‏}‏ الغار‏:‏ ثقب في الجبل، يعني غار ثور‏.‏ ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا‏:‏ هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعملوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبدالله بن أرقط‏.‏ ويقال ابن أريقط، وكان كافرا لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما‏.‏ ثم نهضا فدخلا الغار‏.‏ وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبدالله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثارهما‏.‏ فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال‏:‏ هنا انقطع الأثر‏.‏ فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة‏.‏ وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما‏:‏ أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار‏.‏

روى البخاري عن عائشة قالت‏:‏ استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق‏.‏ وقال البخاري في ترجمته‏:‏ (1)‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما قال البخاري في ترجمته (2) من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر‏.‏ وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها‏.‏ وفيه‏:‏ استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما‏.‏ وفيه‏:‏ دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغيران وغيرها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له‏.‏ ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسنة الله تبديلا‏.‏ وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال‏:‏ من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر‏.‏ وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية

قوله تعالى‏{‏إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه‏.‏ روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك ‏}‏ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ هو الصديق‏.‏ فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع‏.‏ ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه رد نص القرآن‏.‏ ومعنى ‏}‏إن الله معنا‏}‏ أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة‏.‏ روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا‏:‏ حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار‏:‏ لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏)‏‏.‏ قال المحاسبي‏:‏ يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏}‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قالت الإمامية قبحها الله‏:‏ حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه‏.‏ وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه‏{‏نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف‏}‏هود‏:‏ 70‏]‏‏.‏ ولم ينقص موسى قوله‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏.‏ قلنا لا تخف‏}‏طه 67،68‏]‏‏.‏ وفى لوط‏{‏ولا تحزن إنا منجوك وأهلك‏}‏العنكبوت‏:‏ 33‏]‏‏.‏ فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر‏.‏ ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال‏:‏ لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا‏.‏ جواب ثان - إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه ‏}‏والله يعصمك من الناس‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ بالمدينة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم‏{‏كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ وقال في محمد صلى الله عليه وسلم‏{‏لا تحزن إن الله معنا‏}‏ لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل‏.‏ ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم ‏}‏لا تحزن إن الله معنا‏}‏ بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال‏.‏

خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال‏:‏ أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏، الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا‏:‏ انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر‏.‏ فقالت الأنصار‏:‏ منا أمير ومنكم أمير‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ من له مثل هذه الثلاث ‏}‏ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ من هما‏؟‏ قال‏:‏ ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ في قوله تعالى‏{‏ثاني اثنين إذ هما في الغار‏}‏ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا‏.‏ وسمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول‏:‏ إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف‏.‏ والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه‏.‏ وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره‏.‏ وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة ‏[‏الفتح‏]‏ إن شاء الله‏.‏ والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة‏.‏ ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته‏.‏ ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان‏.‏ روى البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان‏.‏ واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان‏.‏ وروي عن مالك أنه توقف في ذلك‏.‏ وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور‏.‏ وهو الأصح إن شاء الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأنزل الله سكينته عليه‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني‏:‏ على أبي بكر‏.‏ ابن العربي‏:‏ قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه‏.‏ فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين تغامر مع الصديق‏:‏ ‏(‏هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت‏)‏ رواه أبو الدرداء‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأيده بجنود لم تروها‏}‏ أي من الملائكة‏.‏ والكناية في قوله ‏}‏وأيده‏}‏ ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب‏.‏ ‏}‏وجعل كلمة الذين كفروا السفلى‏}‏ أي كلمة الشرك‏.‏ ‏}‏وكلمة الله هي العليا‏}‏ قيل‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ وعد النصر‏.‏ وقرأ الأعمش ويعقوب ‏}‏وكلمة الله‏}‏ بالنصب حملا على ‏}‏جعل‏}‏ والباقون بالرفع على الاستئناف‏.‏ وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة، قال‏:‏ لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان‏.‏ وقال أبو حاتم نحوا من هذا‏.‏ قال‏:‏ كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا‏.‏ قال النحاس‏:‏ الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق‏:‏ في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏.‏ وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏الزلزلة‏:‏1،2‏]‏ فهذا لا إشكال فيه‏.‏ وجمع الكلمة كلم‏.‏ وتميم تقول‏:‏ هي كلمة بكسر الكاف‏.‏ وحكى الفراء فيها ثلاث لغات‏:‏ كلمة وكلمة وكلمة مصل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق‏.‏ والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏)‏

‏{‏انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏

روى سفيان عن حصين بن عبدالرحمن عن أبي مالك الغفاري قال‏:‏ أول ما نزل من سورة براءة ‏}‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏‏.‏ وقال أبو الضحاك كذلك أيضا‏.‏ قال‏:‏ ثم نزل أولها وآخرها‏.‏

قوله تعالى‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ نصب على الحال، وفيه عشرة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ يذكر عن ابن عباس ‏}‏انفروا ثبات‏}‏النساء‏:‏ 71‏:‏‏:‏ سرايا متفرقين‏.‏ الثاني‏:‏ روي عن ابن عباس أيضا وقتادة‏:‏ نشاطا وغير نشاط‏.‏ الثالث‏:‏ الخفيف‏:‏ الغني، والثقيل‏:‏ الفقير، قاله مجاهد‏.‏ الرابع‏:‏ الخفيف‏:‏ الشاب، والثقيل‏:‏ الشيخ، قاله الحسن‏.‏ الخامس‏:‏ مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتبة‏.‏ السادس‏:‏ الثقيل‏:‏ الذي له عيال، والخفيف‏:‏ الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم‏.‏ السابع‏:‏ الثقيل‏:‏ الذي له ضيعة يكره أن يدعها، والخفيف‏:‏ الذي لا ضيعة له، قاله ابن زيد‏.‏ الثامن‏:‏ الخفاف‏:‏ الرجال، والثقال‏:‏ الفرسان، قاله الأوزاعي‏.‏ التاسع‏:‏ الخفاف‏:‏ الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش والثقال‏:‏ الجيش بأثره‏.‏ العاشر‏:‏ الخفيف‏:‏ الشجاع، والثقيل‏:‏ الجبان، حكاه النقاش‏.‏ والصحيح في معنى الآية أن الناس أمروا جملة أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت‏.‏ وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ أعلي أن أنفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ حتى أنزل الله تعالى ‏}‏ليس على الأعمى حرج‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة‏.‏

واختلف في هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى‏}‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ الناسخ لها قوله‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏التوبة‏:‏ 122‏]‏‏.‏ والصحيح أنها ليست بمنسوخة‏.‏ روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ قال شبانا وكهولا، ما سمع الله عذر أحد‏.‏ فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات رضي الله عنه‏.‏ وروى حماد عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة ‏[‏براءة‏]‏ فأتى على هذه الآية ‏}‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ فقال‏:‏ أي بني جهزوني جهزوني فقال بنوه‏:‏ يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك‏.‏ قال‏.‏ لا، جهزوني‏.‏ فغزا في البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، ولم يتغير رضي الله عنه‏.‏ وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو‏.‏ فقيل له‏:‏ لقد عذرك الله‏.‏ فقال‏:‏ أتت علينا سورة البعوث ‏}‏انقروا خفافا وثقالا‏}‏‏.‏ وقال الزهري‏:‏ خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه‏.‏ فقيل له‏:‏ إنك عليل‏.‏ فقال‏:‏ استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع‏.‏ وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشأم رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له‏:‏ يا عم إن الله قد عذرك فقال‏:‏ يا ابن أخي، قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا‏.‏ ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه - واسمه عمرو - يوم أحد‏:‏ أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير على ما تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ بيانه‏.‏ فلهذا وما كان مثله مما روي عن الصحابة والتابعين، قلنا‏:‏ إن النسخ لا يصح‏.‏ وقد تكون حالة يجب فيها نفير الكل وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا، شبابا وشيوخا، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر‏.‏ فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم‏.‏ وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين‏.‏ ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو‏.‏ ولا خلاف في هذا‏.‏

وقسم ثان من واجب الجهاد - فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد‏.‏

ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع، قيل له‏:‏ يعمد إلى أسير واحد فيفديه، فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى في الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة، فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسارى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم‏.‏ ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازيا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏)‏ أخرجه الصحيح‏.‏ وذلك لأن مكانه لا يغني وماله لا يكفي‏.‏

روي أن بعض الملوك عاهد كفارا على ألا يحبسوا أسيرا، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث انتهى الخبر إلى هذه المعذبة فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازيا من فوره ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه‏.‏ ذكره ابن العربي وقال‏:‏ ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله - سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر خيرتنا وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه‏.‏ فقلت للوالي والمولى عليه‏:‏ هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت القلوب بالمعاصي وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكيدة بجاره‏.‏ فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وحسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجاهدوا‏}‏ أمر بالجهاد، وهو مشتق من الجهد ‏}‏بأموالكم وأنفسكم‏}‏ روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم‏)‏‏.‏ وهذا وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله تعالى‏.‏ فحض على كمال الأوصاف، وقدم الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز‏.‏ فرتب الأمر كما هو نفسه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم‏.‏ والعرض‏:‏ ما يعرض من منافع الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ غنيمة قريبة‏.‏ أخبر عنهم أنهم لو دعوا إلى غنيمة لاتبعوه‏.‏ ‏}‏عرضا‏}‏ خبر كان‏.‏ ‏}‏قريبا‏}‏ نعته‏.‏ ‏}‏وسفرا قاصدا‏}‏ عطف عليه‏.‏ وحذف اسم كان لدلالة الكلام عليه‏.‏ التقدير‏:‏ لو كان المدعو إليه عرضا قريبا وسفرا قاصدا - أي سهلا معلوم الطرق - لاتبعوك‏.‏ وهذه الكناية للمنافقين كما ذكرنا، لأنهم داخلون في جملة من خوطب بالنفير‏.‏ وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها، كما قيل في قوله تعالى‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏مريم‏:‏ 71‏]‏ أنها القيامة‏.‏ ثم قال جل وعز‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا‏}‏مريم‏:‏72‏]‏ يعني جل وعز جهنم‏.‏ ونظير هذه الآية من السنة في المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء‏)‏‏.‏ يقول‏:‏ لو علم أحدهم أنه يجد شيئا حاضرا معجلا يأخذه لأتى المسجد من أجله‏.‏ ‏}‏ولكن بعدت عليهم الشقة‏}‏ حكى أبو عبيدة وغيره أن الشقة السفر إلى أرض بعيدة‏.‏ يقال‏:‏ منه شقة شاقة‏.‏ والمراد بذلك كله غزوة تبوك‏.‏ وحكى الكسائي أنه يقال‏:‏ شُقة وشِقة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد وربما قالوه بالكسر‏.‏ والشقة شظية تشظى من لوح أو خشبة‏.‏ يقال للغضبان‏:‏ احتد فطارت منه شقة، بالكسر‏.‏ ‏}‏وسيحلفون بالله لو استطعنا‏}‏ أي لو كان لنا سعة في الظهر والمال‏.‏ ‏}‏لخرجنا معكم‏}‏ نظيره ‏}‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏زاد وراحلة‏)‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏يهلكون أنفسهم‏}‏ أي بالكذب والنفاق‏.‏ ‏}‏والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏ في الاعتلال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ قيل‏:‏ هو افتتاح كلام، كما تقول‏:‏ أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا‏.‏ وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله‏{‏عفا الله عنك‏}‏، حكاه مكي والمهدوي والنحاس‏.‏ وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم، فلا يحسن الوقف على قوله‏{‏عفا الله عنك‏}‏ على هذا التقدير، حكاه المهدوي واختاره النحاس‏.‏ ثم قيل‏:‏ في الإذن قولان‏:‏ الأول‏{‏لم أذنت لهم‏}‏ في الخروج معك، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد‏.‏ الثاني - ‏}‏لم أذنت لهم‏}‏ في القعود لما اعتلوا بأعذار، ذكرها القشيري قال‏:‏ وهذا عتاب تلطف إذ قال‏{‏عفا الله عنك‏}‏‏.‏ وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه‏.‏ قال قتادة وعمرو بن ميمون‏:‏ اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما‏:‏ إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ إنما بدر منه ترك الأولى فقدم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين‏}‏ أي ليتبين لك من صدق ممن نافق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة ‏[‏التوبة‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هؤلاء قوم قالوا‏:‏ نستأذن في الجلوس فإن أذن لنا جلسنا وإن لم يؤذن لنا جلسنا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نسخ هذه الآية بقوله في سورة ‏}‏النور‏}‏‏{‏فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم‏}‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ذكره النحاس في معاني القرآن له‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ أي في القعود ولا في الخروج، بل إذا أمرت بشيء ابتدروه، فكان الاستئذان في ذلك الوقت من علامات النفاق لغير عذر، ولذلك قال‏{‏إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون‏}‏‏.‏ روى أبو داود عن ابن عباس قال‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله‏}‏ نسختها التي في ‏}‏النور‏]‏ ‏}‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - إلى قوله - غفور رحيم‏}‏النور‏:‏ 62‏]‏ ‏}‏أن يجاهدوا‏}‏ في موضع نصب بإضمار في، عن الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير كراهية أن يجاهدوا، كقوله‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏ ‏}‏وارتابت قلوبهم‏}‏ شكت في الدين‏.‏ ‏}‏فهم في ريبهم يترددون‏}‏ أي في شكهم يذهبون ويرجعون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة‏}‏ أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر‏.‏ فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف‏.‏ ‏}‏ولكن كره الله انبعاثهم‏}‏ أي خروجهم معك‏.‏ ‏}‏فثبطهم‏}‏ أي حبسهم عنك وخذلهم، لأنهم قالوا‏:‏ إن لم يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرضنا على المؤمنين‏.‏ ويدل على هذا أن بعده ‏}‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏‏.‏ ‏}‏وقيل اقعدوا

قيل‏:‏ هو من قول بعضهم لبعض‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا هو الإذن الذي تقدم ذكره‏.‏ قيل‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم غضبا فأخذوا بظاهر لفظه وقالوا قد أذن لنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود‏.‏ ومعنى ‏}‏مع القاعدين‏}‏ أي مع أولي الضرر والعميان والزمنى والنسوان والصبيان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا‏}‏ هو تسلية للمؤمنين في تخلف المنافقين عنهم‏.‏ والخبال‏:‏ الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف‏.‏ وهذا استثناء منقطع، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا، فلا يكون الاستثناء منقطعا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولأوضعوا خلالكم‏}‏ المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد‏.‏ والإيضاع، سرعة السير‏.‏ وقال الراجز‏:‏

يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع

يقال‏:‏ وضع البعير إذا عدا، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير‏.‏ وأوضعته حملته على العدو‏.‏ وقيل‏:‏ الإيضاع سير مثل الخبب‏.‏ والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال، أي الفرج التي تكون بين الصفوف‏.‏ أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين‏.‏ ‏}‏يبغونكم الفتنة‏}‏ مفعول ثان‏.‏ والمعنى يطلبون لكم الفتنة، أي الإفساد والتحريض‏.‏ ويقال‏:‏ أبغيته كذا أعنته على طلبه، وبغيته كذا طلبته له‏.‏ وقيل‏:‏ الفتنة هنا الشرك‏.‏ ‏}‏وفيكم سماعون لهم‏}‏ أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم‏.‏ قتادة‏:‏ وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم‏.‏ النحاس‏:‏ القول الأول أولى، لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام‏:‏ ومثله ‏}‏سماعون للكذب‏}‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ لا يكاد يقال فيه إلا سامع، مثل قائل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد ابتغوا الفتنة من قبل‏}‏ أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أراد اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وقلبوا لك الأمور‏}‏ أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به‏.‏ ‏}‏حتى جاء الحق وظهر أمر الله‏}‏ أي دينه ‏}‏وهم كارهون‏}‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏:‏ 50 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ من أذن يأذن‏.‏ وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل، ولا يجتمع همزتان، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ايذن‏.‏ فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين، ثم همزت فقلت‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ وروى ورش عن نافع ‏}‏ومنهم من يقول اوذن لي‏}‏ خفف الهمزة‏.‏ قال النحاس‏:‏ يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط‏.‏ فإن قلت‏:‏ ايذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء وكذا الفاء‏.‏ والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك‏:‏ ‏(‏يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء‏)‏ فقال الجد‏:‏ قد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏قد أذنت لك‏)‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ أي لا تفتني بصباحة وجوههم، ولم يكن به علة إلا النفاق‏.‏ قال المهدوي‏:‏ والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم‏.‏ وقيل‏:‏ سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكن صفرا لعسا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ في قول ابن أبي إسحاق فتور‏.‏ وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اغزوا تغنموا بنات الأصفر‏)‏ فقال له الجد‏:‏ ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء‏.‏ وهذا منزع غير الأول، وهو أشبه بالنفاق والمحادة‏.‏ ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم‏:‏ ‏(‏من سيدكم يا بني سلمة‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ جد بن قيس، غير أنه بخيل جبان‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور‏)‏‏.‏ فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه‏:‏

وسود بشر بن البراء لجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا

إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله وقال خذوه إنني عائد غدا

قوله تعالى‏{‏ألا في الفتنة سقطوا‏}‏ أي في الإثم والمعصية وقعوا‏.‏ وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ أي مسيرهم إلى النار، فهي تحدق بهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن تصبك حسنة تسؤهم‏}‏ شرط ومجازاة، وكذا ‏}‏وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ عطف عليه‏.‏ والحسنة‏:‏ الغنيمة والظفر‏.‏ والمصيبة الانهزام‏.‏ ومعنى قوله‏{‏أخذنا أمرنا من قبل‏}‏ أي احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال‏.‏ ‏}‏ويتولوا‏}‏ أي عن الإيمان‏.‏ ‏}‏وهم فرحون‏}‏ أي معجبون بذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏}‏ قيل‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا‏.‏ والمعنى كل شيء بقضاء وقدر‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏الأعراف‏}‏ أن العلم والقدر والكتاب سواء‏.‏ ‏}‏هو مولانا‏}‏ أي ناصرنا‏.‏ والتوكل تفويض الأمر إليه‏.‏ وقراءة الجمهور ‏}‏يصيبنا‏}‏ نصب بلن‏.‏ وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏هل يصيبنا‏}‏ وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ ‏(‏قل لن يصيبنا‏)‏ بنون مشددة‏.‏ وهذا لحن، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز‏.‏ قال الله تعالى‏{‏هل يذهبن كيده ما يغيظ‏}‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل هل تربصون بنا‏}‏ والكوفيون يدغمون اللام في التاء‏.‏ فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام، كما قال جل وعز‏{‏التائبون‏}‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله‏{‏قل تعالوا‏}‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ لأن ‏}‏قل‏}‏ معتل، فلم يجمعوا عليه علتين‏.‏ والتربص الانتظار‏.‏ يقال‏:‏ تربص بالطعام أي انتظر به إلى حين الغلاء‏.‏ والحسنى تأنيث الأحسن‏.‏ وواحد الحسنيين حسنى، والجمع الحسنى‏.‏ ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا‏.‏ لا يقال‏:‏ رأيت امرأة حسنى‏.‏ والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ واللفظ استفهام والمعنى توبيخ‏.‏ ‏}‏ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده‏}‏ أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم‏.‏ ‏}‏أو بأيدينا‏}‏ أي يؤذن لنا في قتالكم‏.‏ ‏}‏فتربصوا‏}‏ تهديد ووعيد‏.‏ أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به‏.‏ ولفظ ‏}‏أنفقوا‏}‏ أمر، ومعناه الشرط والجزاء‏.‏ وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما قال الشاعر‏:‏

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت

والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم‏.‏ ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله‏}‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ فكان في هذا أدل دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا‏.‏ دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏‏.‏ وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها‏)‏‏.‏ وهذا نص‏.‏ ثم قيل‏:‏ هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم‏.‏ وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان‏.‏ أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا‏.‏ قولان أيضا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت من خير‏)‏ قلنا قوله‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت من خير‏)‏ مخالف ظاهره للأصول، لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط‏.‏ فكان المعنى في الحديث‏:‏ إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام‏.‏ وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير‏؟‏ وكذلك فعل في الإسلام‏.‏ وهذا واضح‏.‏ وقد قيل‏:‏ لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام‏.‏ وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب، ومات كافرا‏.‏ وهذا ظاهر الحديث‏.‏ وهو الصحيح إن شاء الله‏.‏ وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه‏.‏ وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما أسلفت‏)‏، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك‏.‏ كما تقول‏:‏ أسلمت على ألف درهم، أي على أن أحرزها لنفسه‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى مسلم عن العباس قال‏:‏ قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح‏)‏‏.‏ قيل له‏:‏ لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير، لكن مع انضمام شفاعة، كما جاء في أبي طالب‏.‏ فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وقال مخبرا عن الكافرين‏{‏فما لنا من شافعين‏.‏ ولا صديق حميم‏}‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏ وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال‏:‏ ‏(‏لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‏)‏‏.‏ من حديث العباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏.‏ ‏}‏إنكم كنتم قوما فاسقين‏}‏ أي كافرين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع‏.‏ والمعنى‏:‏ وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون ‏}‏أن يقبل منهم‏}‏ بالياء، لأن النفقات والإنفاق واحد‏.‏ ‏}‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا‏.‏ فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏النساء‏}‏ القول في هذا كله‏.‏ وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا‏.‏ والحمد لله‏.‏ ‏}‏ولا ينفقون إلا وهم كارهون‏}‏ لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏

أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج ‏}‏إنما يريد الله ليعذبهم بها‏}‏ قال الحسن‏:‏ المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما بريد الله ليعذبهم بها في الآخرة‏.‏ وهذا قول أكثر أهل العربية، ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ يعذبهم بالتعب في الجمع‏.‏ وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير، وهو حسن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون‏.‏ ‏}‏وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏ نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏)‏

‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون‏}‏

بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون‏.‏ نظيره ‏}‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله‏}‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏ والفرق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏)‏

‏{‏لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لو يجدون ملجأ‏}‏ كذا الوقف عليه‏.‏ وفي الخط بألفين‏:‏ الأولى همزة، والثانية عوض من التنوين، وكذا رأيت جزءا‏.‏ والملجأ الحصن، عن قتادة وغيره‏.‏ ابن عباس‏:‏ الحرز، وهما سواء‏.‏ يقال‏:‏ لجأت إليه لجأ بالتحريك وملجأ والتجأت إليه بمعنى‏.‏ والموضع أيضا لجأ وملجأ‏.‏ والتلجئة الإكراه‏.‏ وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه‏.‏ وألجأت أمري إلى الله أسندته‏.‏ وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري‏.‏ ‏}‏أو مغارات‏}‏ جمع مغارة، من غار يغير‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ويجوز أن يكون من أغار يغير، كما قال الشاعر‏:‏

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

قال ابن عباس‏:‏ المغارات الغيران والسراديب، وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين‏.‏ ‏}‏أو مدخلا‏}‏ مفتعل من الدخول، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه، وأعاده لاختلاف اللفظ‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأصل فيه مدتخل، قلبت التاء دالا، لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد‏.‏ وقيل‏:‏ الأصل فيه متدخل على متفعل، كما في قراءة أبي‏{‏أو متدخلا‏}‏ ومعناه دخول بعد دخول، أي قوما يدخلون معهم‏.‏ المهدوي‏:‏ متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول‏.‏ وعن أبي أيضا‏:‏ مندخلا من اندخل، وهو شاذ، لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن‏{‏أو مدخلا‏}‏ بفتح الميم وإسكان الدال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويقرأ ‏}‏أو مدخلا‏}‏ بضم الميم وإسكان الدال‏.‏ الأول من دخل يدخل‏.‏ والثاني من أدخل يدخل‏.‏ كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه‏:‏

مغار ابن همام على حي خثعما

وروي عن قتادة وعيسى والأعمش ‏}‏أو مدخلا‏}‏ بتشديد الدال والخاء‏.‏ والجمهور بتشديد الدال وحدها، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم‏.‏ فهذه ست قراءات‏.‏ ‏}‏لولوا إليه‏}‏ أي لرجعوا إليه‏.‏ ‏}‏وهم يجمحون‏}‏ أي يسرعون، لا يرد وجوههم شيء‏.‏ من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد

والمعنى‏:‏ لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يلزمك في الصدقات‏}‏ أي يطعن عليك، عن قتادة‏.‏ الحسن‏:‏ يعيبك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي يروزك ويسألك‏.‏ النحاس‏:‏ والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن‏.‏ يقال‏:‏ لمزه يلمزه إذا عابه‏.‏ واللمز في اللغة العيب في السر‏.‏ قال الجوهري‏:‏ اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمز وقرئ بهما ‏}‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏‏.‏ ورجل لماز ولمزة أي عياب‏.‏ ويقال أيضا‏:‏ لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه‏.‏ والهمز مثل اللمز‏.‏ والهامز والهماز العياب، والهمزة مثله‏.‏ يقال‏:‏ رجل همزة وامرأة همزة أيضا‏.‏ وهمزه أي دفعه وضربه‏.‏ ثم قيل‏:‏ اللمز في الوجه، والهمز بظهر الغيب‏.‏ وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم‏.‏ قال أبو سعيد الخدري‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج، ويقال له ذو الخويصرة التميمي، فقال‏:‏ اعدل يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه‏.‏ وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله‏}‏ جواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف، التقدير لكان خيرا لهم‏.‏